ایکنا

IQNA

أشهر علماء المسلمین / 6

"ساهر الکعبي" وإستخدام الخطّ للتعبیر عن الوطنیة

16:34 - November 26, 2022
رمز الخبر: 3488732
القدس المحتلة ـ إکنا: لیس من الضروري أن یکون الإنسان سیاسیاً لیستطیع محاربة المحتلین أو التعبیر عن حبّه للوطن إنما یمکنه فعل ذلك من بطریق أخری کما فعل الخطاط والفنان الفلسطيني "ساهر الکعبي" بإستخدام فنّ الخط.

و"ساهر ناصر سعدان بن الکعبي" هو فنان وخطاط فلسطینی مبدع وغیر تقلیدي عمل علی إنجاز کل ما هو جدید من خلال المزج بین معنی المفردات وجمال الخط.

واستثنت التصورات الغربية لمفهوم الفنّ الفنونَ البصرية العربية والإسلامية من مصطلحات "الفنون الجميلة" و"الفن الحديث" و"الفن المعاصر"، وغيرها من التسميات التي حاولت نفيَ صفةِ الإبداعِ عن تلك الفنون معتبرةً إياها مجرد فنون "تنميقٍ وتزيين"، وأطلقت عليها بالمقابل مصطلحات مثل "الفنّ الشعبيّ" و"الفن الحِرَفيّ" و"الفن التطبيقي"، وغيرها من التسميات التي تؤكد التمييز الثقافي، والثنائية الحادّة في الفكر الغربي الاستعماري، والتي حاول أن يفرضها ضمن تصوراته عن الشرق وضمن صياغته للعلاقة معه، كعلاقة استعمارية اشتملت على التمييز الاجتماعي والسياسي، والثقافي أيضًا. فكما انطوى الفكر الغربي على ثنائيات التمييز بين "أضداد ثقافية"، مثل الرجل الأبيض "المتحضّر" مقابل الشرقيّ "المتخلّف"، وضع كذلك تصنيفات للفنون على أساس أيديولوجيّ ثنائيّ ـ تقييميّ يميّز بين "الفنّ الهابط" و"الفنّ الراقي"، فالأول يمثّل "الفنّ المتحضّر" مقابل الثاني الذي يُعتبر "فنًّا بدائيًّا".

وذلك مدخلٌ ضروريٌّ للولوج في أعمال ساهر الكعبي في اللوحة الخطّية العربية المعاصرة، ذلك أن أية قراءة معاصرة لمفهوم الفن وللأعمال الفنية العربية المعاصرة يجب أن تضع في اعتبارها ضرورة التعريف المستمر للمفاهيم والمصطلحات ونقدها وتفنيدها، من أجل عدم البقاء في أسر تبعيةٍ فكريةٍ لا تجادل فيما يُفرض من أُطر وتصنيفات للإبداع.

وتشكل أعمال ساهر كعبي نموذجًا للبحث المستمر في مسيرة الفنان العربي في اللوحة الخطّية، والتي، ومع استمرار الاشتغال والتجديد عليها والتجريب فيها، من غير الممكن أن تبقى ضمن التصنيف الذي يضعها في إطار "الفنون التقليدية"، ما دامت لا تزال تشكل هاجس الفنان ابن المرحلة المعاصرة، وما دامت تنفتح على تجريبه المستمر في خلق تكوينات بصرية من العلاقات بين الكلمات والسطور المرسومة بالخطوط العربية. وفنّ الخطّ العربي كبقية الفنون العربية والإسلامية الأخرى، مثل الرقش والزخرفة وغيرها، يستلهم هويته البصريّة، بما فيها من دائريّة وتكراريّة وترادفيّة، من الفلسفة الروحية في الإسلام، كدينٍ يستند إلى مقومات رئيسية من بينها التوحيد المطلق للخالق الذي "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" (سورة الشورى، 11).

وتتنوّع الخطوط التي يستخدمها ساهر كعبي في أعماله ما بين الثُّلث والثُّلث الجليّ والنسخ، بالإضافة إلى خطّ التعليق الفارسيّ والخطّ الديوانيّ وغيرها. تتمظهر تلك الخطوط ضمن أعمال تتعدد أساليبها بين لوحات وجداريات وحفْر على الخشب في المساجد والأماكن العامة. ويُذكر أن الفنان أنهى في أواخر عام 2019 كتابة المصحف الفلسطينيّ الأول (مصحف المسجد الأقصى المبارك)، ما يعدّ إضافة هامّة وضرورية للإرث الثقافيّ والبصريّ الفلسطينيّ.

وإستخدم ساهر الكعبي أدوات فنیة منوعة وأسالیب عدیدة من وحي الثقافة الفلسطینیة والأدب العربي والإرث الشفوي الفلسطیني وله أعمال فنیة جمیلة في خط آیات القرآن الکریم والحدیث الشریف والشعر العربي والفلسطیني علی وجه الخصوص.

وفي مقابل تنوع الأساليب الخطّية والأدوات الفنية، تتعدد مضامين أعمال ساهر كعبي، إذ تستلهم نصوصها من الديني والمقدّس، ومن الثقافة والأدب العربييْن، ومن الإرث الكلامي الوطني الفلسطيني؛ فتشتمل أعماله على آيات من القرآن الكريم، وعلى أحاديث نبوية وأشعار من الأدب العربي ومن الأدب الفلسطيني كذلك. يأتي هذا التكامل بين الأسلوب والمضمون في أعمال ساهر كعبي مرادفًا لهوّيةٍ تعنون ذاتها حضورًا عربيًا مستمرًا يشكّلُ فسيفساءَ تتناغم داخلها مضامين فكرية وثقافية ودينية وأدبية ووطنية.

وأنجز ساهر كعبي العديد من الأعمال المألوفة في المشهد البصري الخطّي العربي؛ والتي تشتمل على آيات وأحاديث وأبيات شعرية. في إحدى لوحاته يرسم الفنان بخطّ الثلث أبيات القصيدة المعروفة للإمام الشافعيّ والتي مطلعها "دعِ الأيامّ تفعلُ ما تشاءُ، وطِبْ نفسًا إذا حكَمَ القضاءُ". نُسِّقَ الشكل العام للوحة بطريقة المرقّعات القديمة، بحيث تُدوَّن كلمات السطر الأول بخطّ الثّلث، بحجم كبير، ثم تليها ثلاثة سطور بحجم أصغر مدوّنة بخط النسخ، يتكرر التكوين البصري للخطّ بسطرٍ بالثّلث وثلاثة بالنسخ وهكذا. يتكرر ذات التنسيق للسطور في لوحة أخرى يسجّل فيها الفنان أبيات للشاعر الإماراتي صقر بن سلطان القاسمي يمجّد فيها فلسطين وأبناءها، مستخدمًا خطّ الثلث الجليّ في كتابة الأبيات الشعرية، ثم يكرّر البيت ذاته في الأسفل بخطّ النسخ، ويشغل التكرار هنا دورًا جماليًا بالإضافة إلى دوره التوضيحيّ.

وتتأكد المضامين الوطنية الفلسطينية في لوحات أخرى يدوّن فيها ساهر كعبي أشعار ومقاطع من قصائد لمحمود درويش تدور مضامينها في أفلاك الأرض والوطن والهوية واللغة، كما في عمل دُوِّن فيه بخطّ الثّلث مقطعًا من قصيدة للشاعر هو "والأرضُ تُوْرَثُ كاللغة". تُمنَح مفردة "الأرض" المساحة الأكبر من اللوحة ما يعزّز التكامل المنشود في التكوين البصريّ بين الأسلوب والمضمون، وبين النصّي والبصري، وبين اللغة والأرض كمكوّنيْن أساسيْن في الهوية. تبدأ الألوان بالدخول إلى أعمال الفنان كما في تلك اللوحة، إذ تأخذ كلمة "الأرض" اللون الأسود بينما تُرسم بقية كلمات المقطع "تُوْرَثُ كاللغة" باللون الأحمر، في تأكيد مرة أخرى على علاقة الترادف والارتباط والتشابه بين عنصريْ الهوية ـ الأرض واللغة.

وتشكّل أعمال ساهر كعبي تجربة متفرّدة ومتميّزة في المشهد البصريّ ـ النصّيّ الفلسطينيّ، إذ هي تستند إلى فنّ الخطّ وقواعد كتابة الخطوط العربية لتشكيلِ عالمها البصريّ بما فيه من تكوينات تخلقها الحروف والكلمات، وتتلمّس طريقها نحو تشكيلات بصريّة جديدة عبر التجريب والتجديد. وهي في استلهامها من الموروث الدينيّ والوطنيّ والثقافيّ الفلسطينيّ والعربيّ، تسعى إلى اكتمالِ الهويّة البصريّة التي تصونُ جوهرها بالإطارِ الشكليّ اللازمِ لها لتعريفِ ذاتها أمام ذاتها ومقابل الآخر.

captcha